فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك (1)}
شرح الصدر: فتحه؛ أي ألم نفتح صدرك للإسلام.
وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: ألم نُلين لك قلبك.
وروى الضحاك عن ابن عباس قال: قالوا يا رسول الله، أينشرح الصدر؟ قال: «نعم وينفسح». قالوا: يا رسول الله، وهل لذلك علامة؟ قال: «نعم التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاعتداد للموت، قبل نزول الموت» وقد مضى هذا المعنى في (الزمر) عند قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} [الزمر: 22].
وروي عن الحسن قال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك} قال: مُلِئ حكماً وعلماً.
وفي الصحيح عن أنس بن مالك: عن مالك بن صعصعة رجلٍ من قومه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فبينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلاً يقول: أحد الثلاثة فأُتِيت بطَسْت من ذهب، فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا».
قال قتادة قلت: ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: «فاستخرِج قلبي، فغُسِل قلبي بماء زمزم، ثم أعيد مكانه، ثم حُشِي إيماناً وحِكمة» وفي الحديث قِصة.
وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «جاءني ملكان في صورة طائر، معهما ماء وثلج، فشرح أحدهما صدري، وفتح الآخر بمنقاره فيه فغسله». وفي حديث آخر قال: «جاءني مَلَك فشق عن قلبي، فاستخرج منه عذرة، وقال: قلبك وكيع، وعيناك بصيرتان، وأذناك سميعتان، أنت محمد رسول الله، لسانك صادق، ونفسك مطمئنة، وخلقك قُثَم، وأنت قيم».
قال أهل اللغة: قوله: (وكيع) أي يحفظ ما يوضع فيه.
يقال: سِقاء وكيع؛ أي قوِي يحفظ ما يوضع فيه، واستوكعتْ معِدته، أي قوِيت، وقوله (قُثَم) أي جامع.
يقال: رجل قَثوم للخير؛ أي جامع له، ومعنى {ألم نشرح} قد شرحنا؛ الدليل على ذلك قوله في النسْق عليه: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وزرك}، فهذا عطف على التأويل، لا على التنزيل؛ لأنه لو كان على التنزيل لقال: ونضع عنك وزرك.
فدل هذا على أن معنى {ألم نشرح}: قد شرحنا، و(لم) جَحْد، وفي الاستفهام طرف من الجحد، وإذا وقع جحد، رجع إلى التحقيق؛ كقوله تعالى: {أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين} [التين: 8] ومعناه: الله أحكم الحاكمين.
وكذا {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36].
ومثله قول جرير يمدح عبد الملك بن مروان:
ألستمْ خيرَ من ركب المطايا ** وأندى العالمين بطونَ راحِ

المعنى: أنتم كذا.
قوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وزرك}، أي حططنا عنك ذنبك.
وقرأ أنس {وحللنا}، و{حَطَطْنَا}.
وقرأ ابن مسعود: {وحللنا عنك وِقْرك}.
هذه الآية مثل قوله تعالى: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
قيل: الجميع كان قبل النبوّة.
والوِزْر: الذنب؛ أي وضعنا عنك ما كنت فيه من أمر الجاهلية؛ لأنه كان صلى الله عليه وسلم في كثير من مذاهب قومه، وإن لم يكن عبد صنماً ولا وثناً.
قال قتادة والحسن والضحاك: كانت للنبيّ صلى الله عليه وسلم ذنوب أثقلته؛ فغفرها الله له.
{الذي أنقض ظهرك} أي أثقله حتى سمع نقيضه؛ أي صوته.
وأهل اللغة يقولون: أنقض الحِمل ظهر الناقة: إذا سمِعت له صريراً من شدة الحمل.
وكذلك سمعت نقيضَ الرّحل؛ أي صريره.
قال جميل:
وحتى تداعتْ بالنقيض حِبالُه ** وهَمتْ بَوانِي زَوْرِه أن تَحَطَّمَا

(بَوانِي زورِه): أي أصول صدره.
فالوِزر: الحِمل الثقيل.
قال المحاسبِيّ: يعني ثِقل الوِزر لو لم يعف الله عنه.
{الذي أنقض ظهرك} أي أثقله وأوهنه.
قال: وإنما وصفت ذنوب الأنبياء بهذا الثقل، مع كونها مغفورة، لشدّة اهتمامهم بها، وندمهم منها، وتحسرهم عليها.
وقال السُّدّي: {ووضعنا عنك وزرك} أي وحططنا عنك ثِقلك.
وهي في قراءة عبد الله بن مسعود {وحططنا عنك وِقْرك}.
وقيل: أي حططنا عنك ثقل آثام الجاهلية.
قال الحسين بن الفضل: يعني الخطأ والسهو.
وقيل: ذنوب أمتك، أضافها إليه لاشتغال قلبه بها.
وقال عبد العزيز بن يحيى وأبو عبيدة: خففنا عنك أعباء النبوّة والقيام بها، حتى لا تثقل عليك.
وقيل؛ كان في الابتداء يثقل عليه الوحي، حتى كاد يرمي نفسه من شاهق الجبل، إلى أن جاءه جبريل وأراه نفسه؛ وأزيل عنه ما كان يخاف من تغير العقل.
وقيل: عصمناك عن احتمال الوِزر، وحفِظناك قبل النبوّة في الأربعين من الأدناس؛ حتى نزل عليك الوحي وأنت مطهر من الأدناس.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك (4)}
قال مجاهد: يعني بالتأذين.
وفيه يقول حسان بن ثابت:
أَغَرُّ عليه للنبوّة خاتَمٌ ** من الله مشهود يلوح ويُشْهدُ

وضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه ** إذا قال في الخمس المؤذنُ أَشْهدُ

ورُوي عن الضحاك عن ابن عباس، قال: يقول له لا ذُكِرتُ إلا ذُكِرتَ معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى: وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجِمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها.
ولو أن رجلاً عبد الله جل ثناؤه، وصدّق بالجنة والنار وكل شيء، ولم يشهد أن محمداً رسول الله، لم ينتفع بشيء وكان كافراً.
وقيل: أي أعلينا ذكرك، فذكرناك في الكتب المنزلة على الأنبياء قبلك، وأمرناهم بالبشارة بك، ولا دِين إلا ودِينك يظهر عليه.
وقيل: رفعنا ذكرك عند الملائكة في السماء، وفي الأرض عند المؤمنين، ونرفع في الآخرة ذكرك بما نعطيك من المقام المحمود، وكرائم الدرجات. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صدرك}
الشرح في الأصل الفسح والتوسعة وشاع استعماله في الإيضاح ومنه شرح الكتاب إذا أوضحه لما أن فسح الشيء وبسطه مستلزم لإظهار باطنه وما خفي منه وكذا شاع في سرور النفس حتى لو قيل إنه حقيقة عرفية فيه لم يبعد وذلك إذا تعلق بالقلب كان قيل شرح قلبه بكذا أي سره به لما أن القلب كالمنزل للنفس ويلزم عادة من فسح المنزل وتوسعته سرور النازل فيه وكذا إذا تعلق بالصدر الذي هو محل القلب وربما يؤذن ذلك بسعة القلب لما أن العادة كالمطردة في أن توسعة ما حوالي المنزل إنما تكون إذا كان المنزل واسعاً فيوسع ما حواليه لتحصيل زيادة بهجة ونحوها فيه فينتقل منه إلى سور النفس بالواسطة وقد يراد به إذا تعلق بالقلب أو الصدر أيضاً تكثير ما فيه من المعلومات فقيل يتخيل أنها تحتاج إلى فضاء تكون فيه وأن ذلك محل لها فمتى كانت كثيرة اقتضت أن يكون محلها واسعاً ليسعها وقد يراد بها تكثير ما في النفس من ذلك فقيل أيضاً بتخيل أن تكثير معلوماتها يستدعي توسيعها وتوسيعها يستدعي توسيع ذلك لتنزيله منزلة محلها وقد يراد به تأييد النفس بقوة قدسية وأنوار إلهية بحيث تكون ميداناً لمواكب المعلومات وسماء لكواكب الملكات وعرشاً لأنواع التجليات وفرشاً لسوائم الواردات فلا يشغله شأن عن شأن ويستوي لديه يكون وكائن وكان ووجه نسبته إلى الصدر على نحو ما مر وإرادة القلب من الصدر والنفس من القلب بعلاقة المحلية ونحوها مما لا تميل إليه النفس وإرادة كل مما ذكر بقرينة المقام والأنسب بمقام الامتنان هنا إرادة هذا المعنى الأخير وجوز غيره فالمعنى ألم نفسح صدرك حتى حوى عالمي الغيب والشهادة وجمع بين ملكتي الاستفادة والإفادة فما صدك الملابسة بالعلائق الجسمانية عن اقتباس أنوار الملكات الروحانية وما عاقك التعلق بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق وقيل المعنى ألم نزل همك وغمك بإطلاعك على حقائق الأمور وحقار الدنيا فهان عليك احتمال المكاره في الدعاء إلى الله تعالى.
ونقل عن الجمهور أن المعنى ألم نفسحه بالحكمة ونوسعه بتيسيرنا لك نلقى ما يوحى إليك بعد ما كان يشق عليك وعن ابن عباس وجماعة أنه إشارة إلى شق صدره الشريف في صباه عليه الصلاة والسلام وقد وقع هذا الشق على ما في بعض الأخبار وهو عند مرضعته حليمة فقد روي عنها أنها قالت في شأنه عليه الصلاة والسلام لم نزل نتعرف من الله تعالى الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته فكان يشب شباباً لا يشبه الغلمان فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاماً جفراً فقدمنا به على أمه ونحن أحرص شيء على بقائه عندنا لما نرى من بركته فقلنا لأمه لو تركتيه عندنا حتى يغلظ فإنا نخشى عليها وباء مكة فلم نزل بها حتى ردته معنا فرجعنا به فوالله إنه لبعد مقدمنا به بشهر أو ثلاثة مع أخيه من الرضاعة لفي بهم لنا خلف بيوتنا جاء أخوه يشتد فقال ذاك أخي القرشي قد جاءه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه وشقا بطنه فخرجت أنا وأبوه نشتد نحوه فوجدناه قائماً منتقعاً لونه فاعتنقه أبوه وقال: أي بني ما شأنك قال جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني فشقا بطني ثم استخرجا منه شيئاً فطرحاه ثم رداه كما كان فرجعنا به معنا فقال أبوه يا حليمة لقد خشيت أن يكون ابني قد أصيب فانطلقي فرديه إلى أهله قبل أن يظهر به ما نتخوفه قالت فاحتملناه إلى أمه فقالت ما ردكما به فقد كنتما حريصين عليه قلنا نخشى الاختلاف والأحداث فقالت ما ذالك بكما فأصدقاني شأنكما فلم تدعنا حتى أخبرناها خبره فقالت أخشيتما عليه الشيطان لا والله ما للشيطان عليه سبيل وأنه لكائن لابني هذا شأن فدعاه عندكما وفي حديث لأبي يعلى وأبي نعيم وابن عساكر ما يدل على تكرر وقوع ذلك له عليه الصلاة والسلام وهو عند حليمة وقد وقع له صلى الله عليه وسلم أيضاً بعد بلوغه صلى الله عليه وسلم ففي (الدر المنثور) أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند عن أبي بن كعب أن أبا هريرة قال يا رسول الله ما أول ما رأيت من أمر النبوة فاستوى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً وقال: «لقد سألت أبا هريرة أني لفي صحراء ابن عشرين سنة وأشهر إذا بكلام فوق رأسي وإذا رجل يقول لرجل أهو هو فاستقبلاني بوجوه لم أرها بخلق قط وأرواح لم أجدها من خلق قط وثياب لم أجدها على أحد قط فأقبلا إلى يمشيان حتى إذا دنيا أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مساً فقال أحدهما لصاحبه افلق صدره فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع فقال له أخرج الغل والحسد فأخرج شيئاً كهيئة العلقة ثم نبذها فقال له أدخل الرأفة والرحمة فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة ثم حزا إبهام رجلي اليمنى وقال اغد وأسلم فرجعت أغدوا بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير».
والذي رأيته في شرح الهمزية لابن حجر المكي رواية هذا الخبر بلفظ آخر وفيه «أني لفي صحراء واسعة ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه أهو هو» إلى آخر ما فيه فيكون الشق عليه قبل البلوغ أيضاً والله تعالى أعلم.
ثم إنه على الروايتين ليس نصاً على نفي وقوع شق قبله لجواز أن يكون الذي استشعر منه النبوة هو هذا لا ما قبله ووقع له عليه الصلاة والسلام أيضاً عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء وممن روى ذلك الطيالسي والحرث في مسنديهما وكذا أبو نعيم ولفظه «أن جبريل وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه».
ثم قال: {اقرأ باسم رَبّكَ} [العلق: 1] الآيات ووقع أيضاً مرة أخرى تواترت بها الروايات خلافاً لمن أنكرها ليلة الإسراء به صلى الله عليه وسلم روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن قتادة قال حدثنا أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم فشرح صدري إلى كذا وكذا».
قال قتادة قلت يعني لأنس ما تعني قال: «إلى أسفل بطني قال فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيماناً وحكمة ثم أتى بدابة دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل عليه السلام حتى أتينا السماء الدنيا» الحديث.
وطعن القاضي عبد الجبار في ذلك بما حاصله أنه يلزم على وقوعه في الصغر وقبل النبوة تقدم المعجزة على النبوة وهو لا يجوز ووقوعه بعد النبوة وإن لم يلزم عليه ما ذكر إلا أن ما ذكر معه من حديث الغسل وإدخال الرأفة والرحمة وحشو الإيمان والحكمة يرد عليه أن الغسل مما لا أثر له في التكميل الروحاني وإنما هو لإزالة أمر جسماني وأنه لا يصح إدخال ما ذكر وحشوه فإنما هو شيء يخلقه الله تعالى في القلب وليس بشيء فإن تقدم الخارق على النبوة جائز عندنا ونسميه إرهاصاً والأخبار كثيرة في وقوعه له عليه الصلاة والسلام قبل النبوة والغسل بالماء كان لإزالة أمر جسماني ولا يبعد أن يكون إزالته وغسل المحل بماء مخصوص كماء زمزم على ما صح في بعض الروايات ولذا قال البلقيني: إنه أفضل من مكاء الكوثر موجباً لتبديل المزاج وهو مما له دخل في التكميل الروحاني ولذا يأمر المشايخ السالكين لديهم بالرياضة التي يحصل بها تبديل المزاج ويرشد إلى ذلك تغير أحوال النفس وأخلاقها صبا وكهولة وشيخوخة والمراد من إدخال الرأفة وحشو الإيمان مثلاً إدخال ما به يحصل كمال ذلك وكثيراً ما يسمى المسبب باسم السبب مجازاً ويحتمل أن يكون على حقيقته وتجسم المعاني جائز وقال العارف بن أبي جمرة كما في (المواهب اللدنية) للعسقلاني ما حاصله: إن ما دل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على جوهريته وجسميته من أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إلى إدراكها سبيل هو كما دل عليه كلامه عليه الصلاة والسلام في نفس الأمر وأن الحكم من المتكلم أو نحوه عليها بالعرضية إنما هو باعتبار ما ظهر له بعقله وللعقل حد يقف عنده والحقيقة في الحقيقة ما دل عليه خبر الشارع المؤيد بالوحي الإلهي والنور القدسي المحلق بجناحيهما في جو الحقائق إلى حيث لا يسمع لنحلة العقل دندنة ولا للرواة عنه عنعنة فالإيمان والحكمة ونحوهما مما دل عليه كلام النبي صلى الله عليه وسلم على جوهريتها جواهر محسوسة لا معان وإن حسبها من حسبها كذلك انتهى.
والأمر فيه اعتقاداً وإنكاراً إليك ولا ألزمك الاعتقاد فما أريد أن أشق عليك.
وقال بعض الأجلة لعل ذلك من باب التمثيل إذ تمثيل المعاني قد وقع كثيراً كما مثل له عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في عرض حائط مسجده الشريف وفائدته كشف المعنوي بالمحسوس وهو ميل إلى عدم الوقوع حقيقة وقد قال غير واحد جميع ما ورد من الشق وإخراج القلب وغيرهما يجب الإيمان به وإن كان خارقاً للعادة ولا يجوز تأويله لصلاحية القدرة له ومن زعم ذلك وقع في هوة المعتزلة في تأويلهم نصوص سؤال الملكين وعذاب القبر ووزن الأعمال والصراط وغير ذلك بالتشهي وأما حكمة ذلك مع إمكان إيجاد ما ترتب عليه بدونه فقد أطالوا الكلام في بيانها في موضعه نعم حمل الشرح في الآية على ذلك الشق ضعيف عند المحققين والتعبير عن ثبوت الشرح بالاستفهام الإنكاري عن انتفائه للإيذان بأن ثبوته من الظهور بحيث لا يقدر أحد أن يجيب عنه بغير بلى وإسناد الفعل إلى ضمير العظمة للإيذان بعظمته وجلالة قدره وزيادة الجار والمجرور مع توسيطه بين الفعل ومفعوله للإيذان من أول الأمر بأن الشرح من منافعه عليه الصلاة والسلام ومصالحه مسارعة إلى إدخال المسرة في قلبه الشريف صلى الله عليه وسلم وتشويقاً له عليه الصلاة والسلام إلى ما يعقبه ليتمكن عنده وقت وروده فضل تمكن وقرأ أبو جعفر المنصور ألم نشرح بفتح الحاء وخرجه ابن عطية وجماعة على أن الأصل ألم نشرحن بنون التأكيد الخفيفة فأبدل من النون ألفاً ثم حذفها تخفيفاً كما في قوله:
اضرب عنك الهموم طارقها ** ضربك بالسيف قونس الفرس

ولا يخفى أن الحذف هنا أضعف مما في البيت لأن ذلك في الأمر وهذا في النفي ولهذا روى ابن جني في المنتفى عن أبي مجاهد أنه غير جائز أصلاً فنون التوكيد أشبه شيء به الإسهاب والإطناب لا الإيجاز والاختصار والبيت يقال أنه مصنوع والأولى في التمثيل ما أنشده أبو زيد في نوادره:
من أي يومي من الموت افر ** أيوم لم يقدر أم يوم قدر

وقال غير واحد لعل أبا جعفر بين الحاء وأشبعها في مخرجها فظن السامع أنه فتحها وفي (البحر) أن لهذه القراءة تخريجاً أحسن مما ذكر وهو أن الفتح على لغة بعض العرب من النصب بلم فقد حكى اللحياني في نوادره أن منهم من ينصب بها ويجزم بلن عكس المعروف عند الناس وعلى ذلك قول عائشة بنت الأعجم تمدح المختار بن أبي عبيد:
في كل ما هم أمضى رأيه قدما ** ولم يشاور في الأمر الذي فعلا

وخرجها بعضهم على أن الفتح لمحاورة ما بعدها كالكسر في قراءة {الحمد لله} [الفاتحة: 2] بالجر وهو لا يتأتى في بيت عائشة ويتأتى فيما عداه مما مر.
وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وزرك} عطف على ما أشير إليه من مدلول الجملة السابقة كأنه قيل قد شرحنا لك صدرك ووضعنا إلخ و{عنك} متعلق بـ: {وضعنا} وتقديمه على المفعول الصريح لما مر من القصد إلى تعجيل المسرة والتشويق إلى المؤخر ولما أن في وصفه نوع طول فتأخير الجار والمجرور عنه مخل بتجاوب أطراف النظم الكريم والوزر الحمل الثقيل أي وحططنا عنك حملك الثقيل.
{الذى أنقض ظهرك} أي حمله على النقيض وهو صوت الانتقاض والانفكاك أعني الصرير ولا يختص بصوت المحامل والرجال بل يضاف إلى المفاصل فيقال نقيض المفاصل ويراد صوتها فتقيض الظهر ما يسمع من مفاصله من الصوت لثقل الحمل وعليه قول عباس بن مرداس:
وأنقض ظهري ما تطويت منهم ** وكنت عليهم مشفقاً متحنناً

وإسناد الانقاض للحمل إسناد للسبب الحامل مجازاً والمراد بالحمل المنقض هنا ما صدر منه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة مما يشق عليه صلى الله عليه وسلم بعد أو غفلته عن الشرائع ونحوها مما لا يدرك إلا بالوحي مع تطلبه صلى الله عليه وسلم له أو حيرته عليه الصلاة والسلام في بعض الأمور كأداء حق الرسالة أو الوحى ويلقيه فقد كان يثقل عليه صلى الله عليه وسلم في ابتداء أمره جدًّا أو ما كان يرى صلى الله عليه وسلم من ضلال قومه مع العجز عن إرشادهم لعدم طاعتهم له وإذعانهم للحق أو ما كان يرى من تعديهم في إيذائه عليه الصلاة والسلام أو همه عليه الصلاة والسلام من وقاة أبي طالب وخديجة بناء على نزول الصورة بعد وفاتهما ويراد بوضعه على الأول مغفرته وعلى الثاني إزالة غفلته عليه الصلاة والسلام عنه بتعليمه إياه بالوحي ونحوه على الثالث إزالة ما يؤدي للحيرة وعلى الرابع تيسيره له صلى الله عليه وسلم بتدربه واعتياده له وعلى الخامس توفيق بعضهم للإسلام كحمزة وعمر وغيرهما وعلى السادس تقويته صلى الله عليه وسلم على التحمل وعلى السابع إزالة ذلك يرفعه إلى السماء حتى لقيه كل ملك ويحاه وفوزه بمشاهدة محبوبه الأعظم ومولاه عز وجل وأيَّاً ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية والوضع ترشيح لها وليس فيه دليل لنا في العصمة كما لا يخفى واختار أبو حيان كون وضع الوزر كتابة عن عصمته صلى الله عليه وسلم عن الذنوب وتطهيره من الأدناس عبر عن ذلك بالوضع على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك كما يقول القائل رفعت عنك مشقة الزيارة لمن لم يصدر منه زيارة على طريق المبالغة في انتفاء الزيارة منه له والتمثيل عليه بحاله على ما قيل وقيل المراد وزر أمتك وإنما أضيف إليه صلى الله عليه وسلم لاهتمامه بشأنه وتفكره في أمره والمراد بوضعه رفع غائلته في الدنيا من العذاب الهاجل ما دام صلى الله عليه وسلم فيهم وما داموا يستغفرون فقد قال سبحانه: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون} [الأنفال: 33] ولا يخفى بعد هذا الوجه وقرأ أنس {وحططنا} {وحللنا} مكان {وضعنا} وقرأ ابن مسعود {وحللنا عنك وقرك}.
{وَرَفَعْنَا لَكَ ذكرك} بالنبوة وغيرها وأي رفع مثل أن قرن اسمه عليه الصلاة والسلام باسمه عز وجل في كلمتي الشهادة وجعل طاعته طاعته وصلى عليه في ملائكته وأمر المؤمنين بالصلاة عليه وخاطبه بالألقاب كيا أيها المدثر يا أيها المزمل يا أيها النبي يا أيها الرسول وذكره سبحانه في كتب الأولين وأخذ على الأنبياء عليهم السلام وأممهم أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وروي عن مجاهد وقتادة ومحمد بن كعب والضحاك والحسن وغيرهم أنهم قالوا في ذلك لا أذكر إلا ذكرت معي وفيه حديث مرفوع أخرج أبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أتاني جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقول أتدري كيف رفعت ذكرك قلت الله تعالى أعلم قال إذا ذكرت ذكرت معي» وكان ذلك من الاقتصار على ما هو أعظم قدراً من أفراد رفع الذكر ويشير إلى عظم قدره قول حسان:
أغر عليه للنبوة خاتم ** من الله مشهود يلوح ويشهد

وضم الاله اسم النبي إلى اسمه** إذا قال في الخمس المؤذن أشهد

ولا يخفى لطف ذكر الرفع بعد الوضع والكلام في العطف وزيادة لك كالذي سلف. اهـ.